مقطع تحكي هذه القصة أنّ "نادية" فتاة تبلغ من العمر اثني عشر عاما، كانت هدية عيد ميلادها لذلك العام هو اصطحاب أبيها لها فوق ظهر سفينة الأبحاث العلمية حيث يعمل، فلم تلبث أن تهب عاصفة هوجاء خيمت فوق سطح المحيط لتجرف ما أمامها من كائنات وسفن، وكانت سفينة نادية من ضمنها. فتحت نادية عينيها ثم أغلقتها على الفور، حيث وجدت نفسها فوق شاطئ رملي يمتد أمامها حتى الأفق وإلى يمينها، كان البحر ممتدا إلى ما لا نهاية، وقد خلت صفحته المنبسطة من كل أثر لسفينة من السفن. تذكرت كيف سقطت في الماء عندما انقلبت السفينة، وكيف تشبثت بقطعة من الخشب إلى أن بدأت تفقد الوعي فانزلقت قطعة الخشب من قبضة أصابعها، ولكن كيف بلغت الشاطئ؟ وماذا حدث لأبيها وبقية الذين كانوا على السفينة؟ ومن الذي أنقذها؟ فتشت طويلا، ولكن دون جدوى، فكفت عن البحث وواصلت السير، فآلمها باطنا قدميها حتى جلست وغلبها إحساس مفاجئ بالعطش والجوع، فزلت قدمها فجأة فاستندت بيدها إلى قطعة من الزلط بيضاوية الشكل، وإذا بالزلطة تنكسر، فلاحظت أنها بيض لأحد الطيور، وقررت أن تشبع جوعها به، وسرعان ما اشتد إحساسها بالعطش، وكما أمدتها الطيور بوجبتها الأولى فوق الجزيرة المهجورة أرشدتها إلى السيل لتروي عطشها، حيث تبعتها نادية بضع دقائق حتى أشرفت على جدول رقراق من المياه الصافية ينساب من شق بين الصخور، كان الماء عذبا، والأروع من هذا أنه كان باردا، وعندما روت عطشها خطر لها ما جعلها تقدم على أول عمل من أعمال الذكاء، فقد مضت إلى الدغل وبحثت عن شجيراته حتى عثرت على غصن قوي مستقيم فانتزعته وجردته من الأوراق والأشواك، ثم صعدت إلى أكثر الأماكن ارتفاعا فوق الهضبة وخلعت صدارها الصوفي الملون وربطته إلى طرف الغصن فرفرف في الهواء كالراية. بلغت الشاطئ في نقطة تبعد بعض الشيء عن الخليج الذي استيقظت من جواره، فما كانت إلا أمام سلسلة فقرية كاملة مرتبة في نظام لحيوان مجهول كأنما تمدد على الرمل، ثم فقد لحمه كله في غمضة عين، استبعدت أن يكون الحيوان حوتا بسبب حجمه، وعندما فحصت الرأس ميزت خطها على شكل الزجاجة وعرفت أنه دلفين، جرت قدماها بتثاقل مبتعدة عن بقايا الدلفين، وبحثت عن مكان ظليل قريب من الشاطئ فلم تجد غير فجوة أشبه بكهف صغير بين الصخور، فتكومت داخله خوفا من الحشرات والعقارب والثعابين. مالت الشمس من المغيب فأمكنها أن تحدد الجهات الأربع الأصلية، ووجدت أنها هبطت على الساحل الشمالي للجزيرة حيث الخليج وعظام الدلفين، أما المنطقة التي شغلتها الطيور فتقع على الساحل الشرقي. أشرقت شمس صباح اليوم الثاني مع تواجد نادية على الجزيرة المهجورة، وإذا بفكرة تتولد لدى نادية، إذ اكتشفت بالصدفة صلابة جذوع الطحلب ومتانتها فتمكنت من انتزاع بضع طحالب جافة فحملتها هي والعصا إلى أعلى الهضبة بعد أن استعادت صدارها الضائع، وربطت كُمي الصدار بإحدى سيقان النبات البحري ربطا محكما، ثم لفّت النبات جيدا حول العصا وأقامتها مكان الغصن المائل صانعة راية جديدة أكثر ثباتا وقدرة على مقاومة الرياح، وتتابعت الأفكار الذكية، فعندما اشتدت حرارة الشمس جمعت المزيد من الطحالب الجافة وشبكتها سويا، بحيث صنعت قرصا عريضا يتدلى منه حبلان، ووضعت القرص فوق رأسها ثم عقدت الحبلين أسفل ذقنها فصارت لها قبعة، وبالطريقة نفسها صنعت نعلين يمتد من كل منهما حبل لفته حول ساقها، ثم انتقت قطعة من الخشب لتكون سلاحا مؤقتا تدافع به عن نفسها، وما إن أمنت من حرارة الشمس ولسع الرمال حتى انتبهت أنها جائعة ولم تذق شيئا منذ بيضتي الأمس، لكنها عافت تناوله نيئا مرة أخرى وأرادت أن تشعل النار فقامت بحك قطع الزلط، فتولد عنها الشرر، ونجحت في إشعال الجريد من هذا الشرر، ومن ثم تناولت طعامها. داعب النعاس أجفانها فقاومته في استماتة بدافع الخوف، ولم تُجدها المقاومة من شيء فانحنى رأسها فوق صدرها وغفت جالسة. في الصباح استفاقت وقد أغراها الماء بالاستحمام، هرعت إلى حافة الخليج فخلعت ملابسها وغسلتها في الماء، ثم نشرتها على الشاطئ بعد أن ثبتتها بقطعة من الحجر، سبحت قليلا ثم أخذت تلعب مع الأمواج وأغمضت عينها مستمتعة بلطمات المياه، ثم وجدت نفسها تغوص في الماء، وفي هذه اللحظة لمحت ما جعل قلبها يدق بعنف، فقد برزت أمامها فجأة سمكة هائلة الحجم يتجاوز طولها المتر، ذات خطم مدبب طويل يتدلى أسفله فك فاغر، فهرعت نادية إلى الشاطئ وقلبها مازال يدق من الخوف بعد أن تعرفت على سمكة القرش من خطمها الشهير. وفي هذه الأثناء رأت نادية شيئا أفرحها، فلم يكن ثمة شك أن النقطة الداكنة التي تتحرك في الأفق هي سفينة من عابرات المحيط، وكانت الفتاة قد جرت نحو الماء وخاضت فيه دون خوف وهي تلوّح بيدها زاعقة، ثم أدركت أن صوتها لا يمكن أن يسمع، ذلك أن السفينة أبقت على المسافة التي تفصلها عن الجزيرة ومضت في طريقها المرسوم لا تحيد عنه. فارتمت على الرمال في يأس دون أن ترفع عينيها اللتين أغرقتهما بالدموع، وأثناء ذلك أحست نادية بحركة خفيفة إلى جوارها ولمحت السرطان وهو يعود مسرعا إلى حفرته جارا دودة وراءه، فمدت يدها في خفة وأمسكت به فتخلى عن الدودة، وقبض على أصابعها بكلابته الكبيرة ثم قرصها فسال الدم بغزارة من إصبعها، فقامت بيدها الأخرى بلوي كلابته الكبيرة وكسرتها وأسرعت للبحر وغمست إصبعها في الماء. حمل الليل إليها على - غير انتظار - تجربة قاسية لم يسبق لها مثيل، فقد امتلأت سماء الجزيرة بأسراب هائلة من الطيور كبيرة الحجم، حتى دخلت على نادية الكهف وهجمت عليها، على وجهها وعينيها بالذات، حاولت إبعادها بعصاها وهي تضرب بكل قواها على غير هدى، فانتابها التعب، فألقت العصا في يأس وغطت عينيها بيدها، وعلى حين غرة انصرفت الطيور كما جاءت، وبدأ السكون مرعبا متوعدا. وفي الصباح الباكر، كان ثمة جسم لامع داكن اللون يطفو فوق سطح الماء، ويتقدم من الشاطئ في بطء، فعندما اقتربت منه رأت أن طوله لا يزيد على خمس أقدام أو متر ونصف المتر، فتذكرت الهيكل العظمي الذي بلغ ثمانية أقدام، فقدّرت أنها أمام دلفين صغير السن، ازدادت اقترابا منه فرأت الدماء تسيل من فوق ظهره من جرح يمتد عدة سنتيمترات. أصبحت إلى جواره، فشجعتها ابتسامته على أن تمد يدها وتتحسس بشرته المريرية الناعمة، بدا الجرح سطحيا، فأدركت أنه سيلتئم سريعا. قضت اليوم كله إلى جواره، ولم يستمر النزيف طويلا، إذ تجلط الدم بسرعة، وبدت بعض مناطق جسمه كأنها تحترق من أثر أشعة الشمس، فخلعت نادية صدارها وبللته بالماء، ثم مسحت الأجزاء الملتهبة من جلد الدلفين، وما لبثت أن تذكرت السرطان وأنها لم تقدم إليه طعاما على الإطلاق منذ وضعته في محبسه، هرعت إليه فدمعت عيناها وهي تتأمل السرطان المسكين وهو ميت. عندئذ سمعت صوت الدلفين ورأته يدور حول الشاطئ، وأشعة الغروب تلمع فوق رأسه، فهرعت إليه وخاضت في الماء وهي تلوّح له بالعصا، وفي هذه الأثناء نجحت إحدى السلاحف في بلوغ الماء فهبطت بالقرب منها ولحقت بها الطيور على الفور، فاشتعل غضب نادية فصوبت العصا إلى أحد الطيور وأصابته في رأسه فابتعد صارخا، وإذا بالدلفين يقفز في الهواء ثم يسقط وسط الطيور ويهاجمها بفكه محاولا انتزاع ريشها، مما أجبرها على الهرب، صفقت نادية في سعادة وقد تصورت أنه أشفق مثلها على السلاحف الصغيرة وأراد المساعدة في إنقاذها. وفي الصباح ظهرت طائرة عمودية وعبرت فوق الجزيرة بسرعة دون أن تنتبه فيما يبدو للراية الخفاقة، ثم اختفت. لم تحزن نادية للأمر كما كان شأنها مع السفينة، وشعرت على العكس بالاطمئنان إلى أنها ليست معزولة عن العالم، أصبحت عادة الدلفين أن يأتيها كل يوم في موعد محدد فيأتي عند الغروب ويبقى معها حتى حلول الظلام، وإذا تأخر قليلا وقفت على شاطئ الخليج وصاحت بأعلى صوتها: اطلع يا "فن فن". الاسم الذي أطلقته عليه، لم يكن ثمة حد لغرامه باللعب، وكانت استجابته سريعة لأي فكرة تخطر على بالها في هذا الصدد، بل وغالبا ما كان يبتكر بنفسه ألوانا جديدة من الألعاب فإذا ملت اللعب، جلست على حافة الشاطئ وانطلقت تحكي له إحدى حكايات ألف ليلة وليلة، وقد استقر أمامها مصغيا بانتباه. وكما أنّ الطيور أرشدتها إلى مصادر الغذاء والماء، أتيح لها القيام بأول عملية جراحية في حياتها، فقد عثرت على طائر صغير ملقى على الأرض فوق ظهره، وقد أغلقت عيناه وسكن جسده المغطى بريش قصير، ظنته لأول وهلة ميتا إلا أنها رأت أن قلبه ينبض، فأخذته إلى الكهف وفحصته من جديد بدقة، فاكتشفت كسرا بأحد جناحيه وقررت أن تصنع له جبيرة. بدت عليه مظاهر التحسن في اليوم التالي لوضع الجبيرة، فبدأ يقف على ساقيه وزاد إقباله على الطعام، ولم يمض يومان آخران إلا وكان يحرك جناحه السليم، وجعل يقفز في أنحاء الكهف مجربا قدرته على الحركة والطيران، وسَرها أنه مغرم باللعب كالدلفين، فعندما تداعبه بإصبعها يدفعها بقدمه الصغيرة، وإذا رآها تلعب مع الدلفين أو تربت عليه قفز إلى ظهره، وغزه بمنقاره ويطير مبتعدا وهو يصيح في سعادة. اكتمل القمر بدرا معلنا انقضاء أسبوعين كاملين على حلولها فوق الجزيرة المهجورة، وعندما أفاقت في ذلك الصباح تطلعت إلى الشاطئ وأبصرت مشهدا لا يضارع في روعته، كان ثمة قارب بخاري يشق الماء بسرعة مقتربا من الشاطئ، وخلفه وقفت سفينة كبيرة في عرض البحر، هبطت نادية من الكهف جريا دون أن تعبأ بغزات الصخور في قدميها العاريتين، وطار "مينو" صديقها الطائر خلفها فبلغا الشاطئ في اللحظة التي هبط فيها من القارب عدد من الأشخاص في ملابس البحارة، فاستقلت القارب وكان طيرها مستقرا فوق كتفها، عندئذ تذكرت الدلفين فن فن فصاحت بأعلى صوتها: اطلع يا فن فن. تطلع إليها مرافقوها في استغراب، وعندما ذكرت لهم أنها تنادي صديقها الدلفين ضحكوا ساخرين من سذاجتها، ثم فغروا أفواههم في ذهول عندما ظهر الدلفين. سبح الدلفين في بطء خلف القارب، ولوّحت له نادية بيدها مشيرة إليه بالاقتراب، وما أن بلغت السفينة حتى أصدر القبطان أمرا ليعد البحارة شبكا يستولوا فيه على الدلفين، لم يقاوم الدلفين واستسلم للشبكة التي انغلقت عليه ورفعته إلى ظهر السفينة حتى تجمع البحارة مهللين، فأسرعت نادية إلى القبطان تتوسل إليه أن يدع الدلفين وشأنه، لكنه كان منحنيا على حاجز السفينة يتابع ما يجري. صاح أحد البحارة: الدلافين، وتطلّع الجميع فرأوا قطيعا من الدلافين يعوم نحوهم في بطء وحول السفينة، كان الدلفين الكبير يصنع دوائر متتابعة وهو يصيح في انفعال، وأدركت أنه أحد والدي صديقها، تطلعت الفتاة إلى القبطان في توسل فنقل القبطان بصره بين الدلفين ونادية ثم اتخذ قراره بإرجاع الدلفين إلى وسط المحيط، وما أن لمست الشبكة الماء حتى انفرج مصراعاها السفليان وغاص الدلفين على الفور ليظهر بعد ثوان إلى جوار أمه، وابتعدا في الحال. وأدركت أنها لن ترى فن فن بعد اليوم، ومدت يدها تربت على مينو الذي دفن رأسه تحت ذقنها، ودفعت عينيها إلى الجزيرة فتأملت الراية التي غرستها بيدها فوق القمة وهي ترفرف عاليا من بعيد.
عنوان الكتاب
صنع الله إبراهيم


مكتبة الروايات العلمية
الحب - قصص الأطفال
الصداقة - قصص الأطفال
الرفق بالحيوان