مقطع تبدأ قصة عنكبوتنا هذه عندما بدأت رحلتها تتجول على غير هدى دون أن تعثر على صيد، حيث أشرفت على مكان معشوش تناثرت فيه الزهور زاهية الألوان، فتمهلت في سيرها واستقر رأيها على أن تحط رحالها وتبنيِ لنفسها بيتا، فقد أدركت أنها وجدت المكان النموذجي الذي تبحث عنه، وهكذا ظلت العنكبوت في حركة دائبة تشبك خيطا وتجر آخر، تقفز في الهواء وتتسلق الخيوط، ولم يمضِ وقت طويل حتى كانت قد استقرت في ركنها الوثير تنتظر وصول الصيد. وما كانت لتنتظر طويلا حتى كان الشك يخامرها في هوية الحشرة الطائرة التي تروح وتجيء على مقربة، فقد قطعت هذا الشك باليقين عندما شاهدت اللون الأصفر الشهير الذي يتميز به الزنبار. اقتربت منه ببطء حتى استطاعت الانقضاض عليه، ولكنه لم يستسلم ونجح في الإفلات، مما صدم العنكبوت وجعلها تعود إلى مخدعها بهدوء. مرّت على العنكبوت عدة شموس ومثلها من الأقمار وهي قابعة في ركنها تنتظر، والجوع يكاد يقتلها، وفجأة حطت ذبابة على الأرض أمام بيت العنكبوت مباشرة، وترقبت العنكبوت أن تصطدم الذبابة بأحد الخيوط عندما تحاول الطيران، ولكن أملها خاب حين اقترب عنكب غريب الشكل على مقربة من الذبابة وهجم عليها وافترسها. ومرت الليالي، وإذا بالعنكبوت تقطب بصرها على الأرض فترى حفرة مظلمة وقد خرجت منها أحد العناكب، خرجت صاحبتنا من مخبئها وانطلقت إلى الحفرة وتسللت داخلها ولم تلبث أن رأت بضع خيوط تتدلى منها خنفساء صغيرة الحجم، وفي أقل من ثانية كانت العنكبوت تحتضن الخنفساء وتضع فمها على عنقها لتمتص دمائها، وفجأة شعرت بحركة عند الفتحة، وما لبثت أن تبيت صاحبة الحفرة وقد صارت داخلها. استولى الغضب على العنكبوت الحفارة وتضاعف غضبها عندما أدركت من رائحة المتطفلة وموقعها أنها التهمت خنفساها، ولم يكن ثمة مفر من أن تدور معركة طاحنة بين الاثنتين، وكانت صاحبة الحفرة هي البادئة بالهجوم. دارت المعركة بين الاثنتين حتى استطاعت صاحبتنا الهروب عن طريق شق صغير حدث في السقف نتيجة العراك. اكتفت العنكبوت بمخدعها لا تغادره وظلت أياما عديدة لا تستطيع الحركة من جراء الخدوش والجراح التي أصابتها، وعندما بدأت تتعافى أخذت فترات نومها تقل، ولكن حرارة الجو بدأت ترتفع بصورة لم تعد محتملة، مما دفعها إلى تغيير جلدها مع حلول الظلام. وفي الصباح شعرت، أنها لم تعد تطيق البقاء في البيت بمفردها فهبطت إلى الأرض وانطلقت تتجول على غير هدى حتى بلغت شاطئ البحيرة الصغيرة فأغراها منظر المياه بالاقتراب؛ وانحنت تمتص منها، وبينما هي تشرب في استغراق إذا بقبضة حديدية تمسك بإحدى سيقانها الخلفية، وقبل أن تفكر في المقاومة كان مهاجمها الجريء يوثق بقية سيقانها، كان عنكبا غريبا أحمر اللون، ثار غضبها عندما وجدت نفسها مقيدة عاجزة عن الحركة، جرّها العنكب بعيدا عن الماء إلى طرف خيمة، ثم عاد فأطلق من مؤخرته عدة خيوط على ثقب الخيمة وعندئذ تحولت العنكبوت إلى أسيرته، لكن العنكب لم يفكر في التهام صيده الصغير لأنه قد بدأ يشكو الوحدة في الآونة الأخيرة، وعندما رآها أعجبه لونها، وكان يعرف أنها لن تقبل المجيء معه بمحض اختيارها لأنه ليس من نوعها، استسلمت له تلك الليلة وفي الصباح أبصر العنكب أشهى طعام لديه، إذ بجمبرية تتدلى أمامه مباشرة ولم يلبث أن تعلق على الفور بها، وعلى حين غرة ارتفعت الجمبرية إلى أعلى في حركة سريعة جذبته هو وخيمته معها، لم يعرف أن الجمبرية معلقة في خطاف سنارة لصيد السمك، وأن السنارة في يد صبي يجلس على حافة البحيرة يدليها كل فترة في مكان جديد. سقطت بقايا الخيمة بالعنكبوت فوق بعض الأعشاب المائية، وعكفت على محاولة التخلص من الشبكة التي تقيدها وبالفعل تم لها ذلك، وفجأة تجمدت العنكبوت في مكانها وقد غشيها الرعب حين رأت أمامها عنكبا جديدا، لكنها لم تلبث أن شعرت بالاطمئنان عندما تبينت في العنكب الذي وقف أمامها أنه واحدا من نوعها. لم تستغرق المناورات الضرورية للتعارف وتبادل الثقة بين الحيوانين طويلا، وسرعان ما كانا ينطلقان سويا، ولم تكن العنكبوت تشعر برغبة في العودة إلى بيتها القديم، فضلا عن أنها لم تعد تعرف الآن مكانه. فاختارت هي وصديقها مكانا ملائما ثم عكفا الاثنان على بناء منزل جديد، وعندما انتهت من البناء ومدت خيوط المصيدة صعدا سويا إلى المرتبة المعهودة واستقرا فوقها وعاشا الاثنان بعض الوقت في وئام تام.، وقد كانا يتساعدان في بعض حالات الصيد. مرت الأيام حتى وضعت العنكبوت عددا من البيض تجاوز المائتين، ثم أغلقت عليه الحجرة الداخلية تماما واستقرت إلى جوارها لا تبرحها لأي سبب من الأسباب، وكانت هذه الشرنقة سببا في نهاية العلاقة بين العنكبوت وصديقها، فقد دفعها الفضول - ذات مرة - إلى الاقتراب من الشرنقة فانتابتها ثورة عارمة، فولّى من أمامها هاربا وغادر البيت نهائيا، وحلّ أخيرا اليوم الموعود، إذ فقس البيض وغادرت العناكب الصومعة الداخلية. وذات يوم من أيام الربيع، تدافع الصغار إلى الخارج بعد شتاء مريح من الوسائد، وأحاطوا بأمهم ثم انتشروا في جنبات البيت وتدلوا من خيوطه مجموعات مجموعات. تتابع رحيل العناكب الصغار والأم ترقبهم بعيون ذابلة، كانت تعرف أنها لن تراهم بعد الآن، فقد انتشروا في أرجاء العالم الواسع يتولّون أمورهم بأنفسهم، ولم تعد لهم حاجة بها، وصار بوسعها أن تستغرق في نوم عميق لن تفيق منه أبدا.
عنوان الكتاب
صنع الله إبراهيم


مكتبة الروايات العلمية
الحب - قصص الأطفال
حب الأبناء
العناكب