مقطع أرشيفيا الطفلة التي أحبت عالم القصص والحكايات، وكانت تتساءل دوماً ماذا سيضرنا لو تحولنا في يوم إلى رسوم متحركة، نرسم بأصابعنا بيتاً فنسكن فيه، نهز الغيمة فتنفجر بالموسيقا. ولكن الجد كان يقول لقد ولدت يا فتاة في يوم منكوب، ذلك اليوم حمل الأهل والأجداد والأبناء ما خف وزنه وسهل حمله هاربين من البلاد بعد أن هجم عليهم الدعسورات وهي مخلوقات كبيرة ومخيفة، التي سرقت أراضيهم واستولت على كل ممتلكاتهم. لذلك عاش أهل القرية في خيام في العراء، والآن أرشيفيا فتاة تفيق كل يوم على أصوات من المواويل والحكايات التي تروي بطولات الأجداد وحياتهم الجميلة، ولأن أرشيفيا كانت تحب الحكايات والاستماع لها قررت أن تدون كل الحكايات التي تنقلها لأبنائها والأطفال في المستقبل. ومع حب أرشيفيا لتدوين الحكايات كان سندل يفاجئها في مغامرات جديدة وعلى أرشيفيا متابعتهم لتتخلص مما قد يقع فيه، وفي أحد الأيام وصلت لمكان معتم بعد هروبها هي وسندل من فتى بعد عراك. وبعد مدة من الصمت والهدوء كان سندل يبعث بصندوق ضخم يحتوي أوراق وصور ولكن صاحب المكان ظهر فجأة فهربت أرشيفيا وصديقها سندل. وأثناء الطريق قابلت إمرأة عجوز اصطحبت أرشيفيا لمنزلها وقدمت لها الطعام والشراب اللذيذ، شعرت أرشيفيا بالخوف من اهتمام المرأة بها ولكن بدأت تسأل المرأة الفتاة هل أنت أرشيفيا التي تدون الحكايات؟ فطلبت منها أن تدون حكايتها مع الصندوق الذي تجمع فيه كل ذكرياتها من صور وأوراق ورسائل ومخطوطات، وقصاصات من الصحف والمجلات. صور تحكي ذكريات جميلة وحياة هنيئة، ولكن في أحد الأيام اختفى الصندوق، فدوني يا أرشيفيا حكايتي مع الصندوق. رجعت أرشيفيا وهي تفكر في المرأة ولكن صديقها سندل كان مضطرباً وكأنه يقول شيئاً. وفي صباح اليوم التالي استيقظت أرشيفيا فلم تجد سندل يا ترى أين ذهب؟ خرجت تبحث عنه وبينما هي راكضة للبحث عنه لمحته يتسلل خيمة الرجل التي دخلاها بالأمس لحقت به بخفة خوفاً من كشف أمرها ولكن الرجل قابلها وأخبرها عن الصندوق الذي وجده يوماً يحمله أحد الدعسورات ولكنه وقع في مأزق، فأخذ الصندوق تاركا الدعسور يحاول أن ينقذ نفسه على أمل أن يجد صاحب الصندوق. كان الصندوق يحتوي على قصاصات أوراق ورسائل، وصور فحملت الصندوق لتعيده للمرأة العجوز التي فرحت بعودة ماضيها الجميل وذكرياتها لتهديها لأرشيفيا لتدون وتنقل كل ما يحتويه الصندوق للجيل القادم. ومنذ ذلك اليوم لم تعد أرشيفيا تتمنى أن تكون رسوم كرتون ولكنها تريد أن تكون مؤرشفة محترفة تكون لحركتها أفعال مؤثرة تغير شيئاً من المستقبل، وحولت الصندوق إلى شيئ كبير أسمته المكنز تحتفظ بوثائقه وتصنفها وتعطيها رقماً. الذاكرة وأدب المقاومة في أدب الطفولة: "قراءة في أرشيفيا" بتول احمد خميس عُرِفت الذاكرة بأنها عملية عقلية معرفية، تقوم على تخزين المعلومات والخبرات والمواقف التي يمر بها الإنسان خلال مسيرة حياته، بغرض استدعائها واسترجاعها عند الحاجة، وهي بهذا المعنى تُعدّ إحدى الركائز الجوهرية في بناء السلوك الإنساني وصياغة الثقافة الفردية والجمعية. فالذاكرة ليست مجرد مخزن للأحداث، بل هي مكوِّن حيوي من مكونات الهوية، إذ إن فقدانها يعني – بالمعنى الرمزي – فقدان الإنسان لذاته وانقطاعه عن جذوره. إن الذكرى، بما تختزنه الذاكرة من مشاهد وأصوات وأحاسيس، تبقى جسرًا راسخًا بين الأمس واليوم، يمتد ليعبر بالإنسان نحو المستقبل محمّلاً بالدروس والعبر. فهي الرابط الخفي بين الأصالة والمستقبل الذي ننشده، وبين الهوية الثقافية والغد القادم. وانطلاقًا من هذه الأهمية البالغة للذكرى في تشكيل هوية الفرد والمجتمع، لم يكن غريبًا أن يحتفي بها الأدباء في نتاجاتهم الشعرية والنثرية، لا سيما في أدب المقاومة، حيث تتحوّل الذاكرة إلى قوة تدفع نحو أفق التحرر والتغيير. هذا المعنى للذكرى أوجد في العديد من الخطابات الأدبية لتلهم الأجيال وتغرس فيهم قيم الانتماء والولاء. في سياق المعنى العميق للذكرى في الأدب، استوقفتني قصة بعنوان "أرشيفيا" للكاتبة أمل ناصر، مصحوبة برسوم مبدعة لـلينا نداف، والصادرة عن "حكاية قمر" عام 2020. هذه القصة ليست مجرد سرد أدبي لكنها رحلة عبر الزمن والمكان، حيث تتشابك الذكريات مع الواقع، وتتصارع الأحاسيس بين الألم والأمل، وتُظهر القصة قدرة الكاتبة على التعبير عن معاناة الشعب الفلسطيني بأسلوب أدبي رفيع، مما يجعلها إضافة قيِّمة لأدب المقاومة. "أرشيفيا" فتاة تحلم بالكثير من الأمنيات، تعيش وسط ظلمة المخيمات وجراح التهجير وظلم المحتل، ومع ذلك تخوض مغامرات متتالية مع صديقها "سندل" الكائن الغريب كثير المتاعب، لتصل في نهايةِ القصة للعجوز صاحبة الصندوق وتكتشف أصالةَ بلادها وجمالها لتكن "أرشيفيا" أرشيفًا تحمل على عاتقها نقل تراث بلادها وثقافته وهويته للأجيال القادمة. قُدِّمَت القصة للأطفال بدءًا من عمر العشر سنوات ؛ لذلك اتسعت مساحة القلم لتمنح الكاتبة مجالًا أرحب لاستكشاف أبعاد القضية وتأثيرها المباشر على أفراد المجتمع والعلاقات الإنسانية، هذا التوسُّع يُمكّن الكاتبة من تسليط الضوء على مشاعر الشعب المحتل، وقهر الاحتلال، والتجريد من الوطنية والهُويَّة، مما يُعمّق تفاعل القارئ لهذه التجارب الإنسانية، وقد تمكنت الكاتبة من توثيق العلاقة بين القارئ وبين تجارب الأفراد في القصة من خلال الذكرى والذاكرة الجمعية، وجسّدتها القصة في مشاهد عدّة، حيث تكشف القراءة التحليلية التالية عن تفكيكٍ للنص وتجلٍ لأبعاد تمثيل الذكرى والذاكرة في مختلف أبعاد القصة، وبوصفها جزءًا لا يتجزأ من أدب المقاومة. أولا: مفردة العنوان كوصفه هوية سردية اتَّسم عنوان كتاب "أرشيفيا" بقُدرةٍ لافتة على التأثير المباشر وتعزيز الصلة بين القارئ وعناصر الحكاية، إذْ نجح في جمع التفاصيل ضمن مفردة العنوان "أرشيفيا" جامعًا لمعنى اللفظ - الأرشيف - والدلالة الاسمية ل -أرشيفيا-، بحيث لم يعد لقبًأ للفتاة بل هوية ذاتية، صاغت الكاتبة المعنى السابق بعبارة "كان لديَّ اسم خُطف مني! ... ما يهم أن اسمي الآن أرشيفيا". لم يكن الاسم مجرّد تسمية عابرة، بل انعكاسًا دلاليًا لوظيفتها الرمزية داخل النص؛ إذ تشكّلت شخصيتها كمرآة للأرشيف ذاته، تحمل في طيّاتها شذرات من الذاكرة الجمعية والفردية معًا. لقد تماهت أرشيفيا مع الأرشيف لا بوصفها كائنًا سرديًّا فحسب، بل ككيان يحفظ الأثر، ويستعيد بعض ما تبقى من زمنٍ مضى بالتدوين والتوثيق. وكما يحتوي الأرشيف وثائق الزمن، احتوت الفتاة “أرشيفيا" الذكرى بمختلف مواقفها، فغدت هي والذاكرة وجهين لصورة واحدة، ينعكس كلٌّ منهما في الآخر، حتى تلاشت الحدود بين الذات والمحفوظ، فكان لحضورها تجسيدًا حيًّا لذاكرة تقاوم النسيان لتنهض بالفرد نحو المقاومة والانتصار. ثانياً: الرسم والإخراج الفني في تشكيل دلالة العنوان: أسهمت عناصر التصميم البصري، ولا سيما استخدام الرسامة لأسلوب الكولاج، في تعميق دلالة العنوان وإضفاء طبقات رمزية إضافية على النص مما صور الطابع الأرشيفي والإحساس بمواد وصورًا قديمة، أضفت الألوان المتدرجة من لوني البيج والأصفر الباهت احساسًا بأصالة الأحداث وواقعتها، وعكست أجواء الفقر والبساطة التي فرضتها الحرب، بما يتناغم مع الدلالة الرمزية للعنوان. اللافت أيضًا حضور الهوامش التوضيحية وبعض أشرطة اللاصق المرسومة، والتي عززت واقعية التجربة وجعلت من الصفحة مساحة حيوية تشبه دفترًا حقيقيًا كُتبت عليه الذكريات بخط اليد. وقد جاء هذا الأسلوب الفني كأنه عمل يدوي ليعكس تصورًا للقاري على الرسومات، ويُشعِره بأن ما يراه قد خُطّ فعلًا بيد الشخصية المحورية، مما يُرسّخ صدقية الأحداث ويعزز من شعور القارئ بأن ما يقرؤه ليس مجرد قصة، بل شهادة بصرية نابضة بالحياة ضد العدو. ثانيًا: جماليات النص السردي • تداخل الأزمنة: أن صوت الذكريات كان عاليا في النص السردي حيث كانت المحرك الأساسي لسير منحنى الأحداث، كما كشف التعبير اللغوي عن عمق المشاعر الدفينة وتراكم أثرها على ذات الداخلية لشخصيات القصة من جهة وعلى السلوك الظاهري والأفكار المتدفقة من جهة أخرى. اعتمد النص على تداخل زمني دقيق بين الماضي والحاضر، فعلى سبيل المثال تستهل الكاتبة القصة بعبارة " كنت حين تشتد الظلمة على قلبي، أحدث القنافذ، والدعاسيق، والثعالب الطائرة، والخنافس المجنحة، والسحالي المرقطة، وأقول: ماذا كان سيضرنا لو أننا نتحول في يوم ما إلى رسومات متحركة؟" يتجلى التداخل الزمني بين لفظي "كنت" و"أحدث" فالفعل الأول دال على زمن الماضي حيث تؤسس الكاتبة سياقًا سرديًا يعود إلى الذكرى لكنه لا يلبث أن يتحول إلى زمن الحاضر من خلال "أحدث" و"أقول" هذا التلاعب الزمني يعكس التوتر بين الذاكرة الحاضرة والذكرى عند استدعاء الأحداث السابقة. بالرغم من أن الانتقال الزمني يعد أسلوب لغوي بلاغي وجمالي إلا أنه يخبأ في تعبيره الضمني تجربة شعورية لم تغادر وجدان المتكلم، وتحفز تساؤلات القارئ وفضوله للتوغل في أعماق شخصيات القصة لاكتشاف آلامها وآمالها. تكرر ذات الأسلوب في عدة مشاهد منها "كان لدي أسم خطف مني! نعم، الأسماء قد تخطف أيضًا على كل هذه قصة ثانية قد أخبركم بها، وقد تكتشفونها وحدكم، ما يهم أن اسمي الآن "أرشيفيا" استخدم الماضي في عبارة "كان لدي اسم" وبسبب ما فقد هذا الاسم، أما عبارة "اسمي الآن أرشيفيا" فهي تعكس زمنًا حاضرًا يستفيق على فقد الهوية، فالحاضر يسترجع بألم وفقد الهوية مما يخلق الانتقال بين الزمنين احساساً بالانفصال الذاتي عن الهوية. • تراكم الصورة الفنية والخيالية أُسس النص على ذاكرة الحنين منطلقًا منها إلى عالمٍ الخيال الطفولي، وكأنها تحاول الانفصال والهرب من الواقع المؤلم إلى خيال آمن يعكس نوعاً من الطفولة البريئة، وكأن المتكلم يسعى إلى حماية ذاته من القسوة عبر التماهي مع عالم الرسوم المتحركة؛ ذاك العالم السعيد، الذي تتحقق فيه الرغبات، ولا يتأذى أحد، ويعيش أصحابه بأمن وأمان. وتجلى ذلك العالم الخيالي الداخلي من خلال ما يلي: 1. الكائنات الحسية الصغيرة، ك (القنافذ، الدعاسيق، الثعالب الطائرة، الخنافس، والسحالي) كائنات غير حقيقة يدار بينها وبين الفتاة حوار ذاك الحوار غير حقيقي بل هو حوار مع الذاكرة تنقل المتكلم من عالم المؤلم إلى عالم كان يمكن أن يكون سعيدًا به، فالكائنات تلك تستدعى كرفاق مستمعين يعيشون ذات الألم وكأنهم جزء من الذاكرة. 2. تستهل الكاتبة الحكاية بسؤال ذاتي حالم: "ماذا كان سيضرنا لو أننا نتحول في يوم ما إلى رسومات متحركة؟"، جاء السؤال كوسيلة دفاعية الانفصال والهروب من الواقع المؤلم إلى خيال آمن يمكننا من تحقيق الامنيات ويعكس نوعاً من الطفولة. ولتأكيد الرغبة الشديدة في العيش بذاكرة الطفولة استرسلت بالتعبير عن أحلامها قائلةً: " نرسم بأصابعنا بيتاً ونسكن فيه، نزرع الحبوب فيصبح لدينا بغمضة عين حقول من القمح والزيتون والبرتقال، نهز الخيمة فتنفجر بالموسيقى، نمحي بالممحاة الوجوه العابسة ونرسم الأراجيح بدلاً منها ..." تواصل أحلامها لكنها تنهي الحوار بسؤال مبطن لصرخة للواقع "ماذا كان سيضر العالم لو أننا تحولنا لرسوم متحركة؟" هذا السؤال يُحمّل الواقع مسؤولية تجاهل وعدم الاكتراث بوجود الأفراد، ويدين تجاهل العالم لمعاناة الشعوب من آلام الحرب وقهرها. هذا الانتقال في الأمنيات من الداخل إلى الخارج، ومن الذات إلى العالم، يعكس توترا بين ذاكرة وبين قسوة الواقع. 3. تعلوا وتيرة التوتر لتواصل الكاتبة حكايتها باستدعاء الشخصيات الخيالية، الرسوم المتحركة والحكايات الخرافية؛ وكان لتوظيفها في البناء السردي للنص أثرا في تبسيط الفكرة للقارئ، وزيادة وتيرة الخيال والتشويق والإثارة، ومساعدا على تجاهل الذكرى المؤلمة والنسيان والتعايش في عالم الأحلام ولو لوقت قصير، استحضرت الكاتبة بعض الحكايات الخرافية العالمية مثل "الأميرة والأقزام" وقصة " هانسل وغريتل" لتقرّب التعبيرَ عن مشاعر الخوف والرهبة فعبرت عن ذلك بالعبارة التالية: "خطر على بالي كثير من الأفكار السيئة والمخيفة، تذكرت قصة الساحرة التي قبضت على طفلين وصارت تطعمهما الكثير من الطعام لتجعلهما يسمنان ثم تشويهما كوجبه دسمة"، أما الاستعانة بقصة "أليس في بلاد العجائب" كان لإظهار أوقات السعادة والابتسامة السعيدة؛ وبذلك استطاعت الكاتبة التلميح عن مشاعر الفتاة دون التعبير الصريح بها. وبهذا يتّضح لنا أن فعل التخيُّل ممنهج بعناية في القصة، وظف كل مشهد لغاية وهدف، فدمج الخيال بالواقع هو متنفسًا للأطفال من واقع قاسي. رابعًا: البنية السردية وتوظيف الذاكرة توظف أمل ناصر عدة تقنيات في القصة تستخدم الذاكرة ليس فقط كموضوع سردي بل كآلية فنية تعزز اندماج القارئ بأحداث القصة من خلال الوعي أن الأرشيف هو رابط بين الفرد وهويته، ومن خلاله يمكن حفظ الأحداث والحديث والصور وما يحملها كلٌ منهم من مشاعر واحساس وما يحيطها من رائحة وملمس وحضور نفسي وذهني، وبذلك يكن القارئ مشارك في توقعات الحدث لا متلقي فقط، واستخدمت عدة آليات للذاكرة نذكر منها ما يلي: • الذاكرة بوصفها محرك للأشياء، للذاكرة قوة خفية تحرك الأفراد نحو المستقبل، وهي بلا شك تؤثر في اختياراتنا وقراراتنا، وفي لحظة قد تغير مسار الحياة ومجرى الأحداث، من هنا نجد أن ذاكرة الفتاة استدعت كل التفاصيل الغائرة في عمقها لتعيد تشكيل رؤيتها للعالم، بدءً بذكرى ألم يوم مولدها وما سبقه من أحداث مؤسفة والحديث مع الكائنات الخيالية، مرورًا بالاستماع بأنغام المواويل والحكايات، انتهاء بذكريات العجوز المخبأ في الصندوق، جميعها دعت من ذاكرة الفتاة لتغير مجرى حياتها من العيش بالأحلام إلى الانتقال للواقع بأفعال مؤثرة حيث عبرت الكاتبة لهذا المعنى بالعبارة "لم أعد أتمنى أن أتحول إلى رسمة متحركة! أريد أن أحول حركتي إلى أفعال مؤثرة، نغير شيئًا من المستقبل لنجعله مكاناً أجمل" • الذاكرة بوصفها أداة لبناء الشخصية الذاكرة في أدب المقاومة ليست استدعاءً للماضي، بل هي أداة تعيد بناء الشخصية، فللذكريات أبواب تطرق ليتبصر صاحبها الحقائق والوثائق فتكن داعمة لبناء شخصه وكيانه. هذا المعنى نجده في نهاية النص القصص بعبارة " أنا أرشيفيا، مؤرشفة محترفة لا يغطيني الغبار كما يتخيل أكثرهم بل أنا من أنفض الغبار" وعبارة "لم أعد أتمنى أن أتحول إلى رسمة متحركة! بل أريد أن أحول حركتي إلى أفعال مؤثرة". أن التحول والتطور بشخص "أرشيفيا" من خلال النص السابق يتضح أن الذاكرة ليست حنينا للماضي فقط، بل قوة فاعلة تساهم في بناء الشخصية بناءً ايجابياً، وترفع مستويات وعي الانسان ليفهم جذوره وتقدير التجارب الماضية في تشكيل هويته وكيانه، ومن خلال هذا الوعي، تنبع القدرة على صون الذات، وتحويل مواطن الضعف إلى قوةٍ تحمي الكرامة والحرية. • "ذاكرة متعددة الحواس: المكان، الرائحة، الزمن، والجسد" في هذه القصة لا تعد الذاكرة مجرد مخزن لاسترجاع صورًا من الماضي، بل كائن مرتبط بحواس متعددة تحفظ تفاصيل الحياة اليومية التي تعيد تشكيل الوجود والتفكير. فالمشاهد لم تصور الذاكرة من بعدًا واحدًا بل تتعدد الزوايا التعبير، ك المكان والزمان، والرائحة، والأشياء فيضاعف التأثير في وجدان القارئ من جهة ويعمق ولاءه للأرض. فالقارئ لا يكتفي بقراءة الكلمات أو تأمل مشهد مصوّر، بل يتجاوزه إلى أن يتعايش بالإحساس والوجدان؛ كأنما يتنفس هواءه، ويسمع أصواته، ويشعر بحرارته، فيتداخل الواقع بالنص، ويصبح المشهد تجربة حية لا مجرد صورة عابرة. وهذا يطبق على عدة مشاهد نذكر منها مشهد يوم الولادة. "لقد ولدتِ يا فتاة في يوم منكوب" ... "كانت الرياح أيار عاصفة هادرة كصوت بحر سجن في بئر بحر مليئة بالرمال الصفراء وبالغبار..." "ذاك اليوم قبل أن أولد بساعات حمل أهلي وأجدادي وأبناء بلدتي ما خف وزنه وسهل حمله، وطبعًا لم تنسى الأمهات حمل آلات الخياطة، خرجوا قوافل هاربين من البلاد وجوههم تعلوها الغبار، وأعينهم مثل أزرارٍ تم تثبيتها بخيوط الألم". في المقطع السردي السابق تصف الكاتبة الأحداث بدقة لتعمق التجربة الحسية والوجدانية لدى القارئ فيتفاعل عاطفيًا ليكن للذاكرة دورٌ التأثير المباشر على القارئ، فعلى سبيل المثال تتمثل ذاكرة الزمان في عبارة "لقد ولدت يا فتاة في يوم منكوب" "ذاك اليوم قبل أن أولد بساعات" تحضر الكاتبة الذاكرة الزمنية بوصفها تاريخًا مأساويًا فالولادة التي تعد بداية حياة جديدة هي ذاتها تعد بداية حياة مأساوية ومجهدة فالزمن نفسه ينبأ باستمرار المأساة، مأساة مشهد الولادة يعمق بحضور الذاكرة الحسية المرتبطة بالروائح والطقس فرياح أيار عاصفة هادرة، والغبار والرمال الصفراء، وهما يتضمنان المشاهدة البصرية والشم والاحساس وهي ما ترتبط بالجسد مباشرة مما تجعل من الذاكرة ملموسة يشعر القارئ بقوة الرياح ويشتم رائحة الغبار وتصفر رؤيته منها، تستمر الكاتبة بالتعمق بوصف أبعاد الذاكرة، المكان أشبه "ببحر سجن في بئر" ذلك البحر الذي عرف بالانفتاح والحرية والانطلاق يصبح مسجونًا في بئر مظلم وهي بلا شك صورة تختزل معاناة الوجود في المكان كما تعكس صورة معاناة مجتمعية. تستخدم أمل ناصر الأشياء كذاكرة لحفظ استمرار الحياة فآلات الخياطة لا تعد من الكماليات بل هي رمز لاستمرار الحياة والعيش الكريم، أما الأزرار التي ثبت من خيوط الألم فهي أشياء حولت ذاكرة الأشياء لجزء من الألم الجسدي ومعاناة الأفراد فتزيد لدى القارئ الإحساس بالواقع المعاناة والفقد. وتجلت كذلك ذاكرة الحواس في مشهد المخيم لتبدأ أرشيفيا بوصف المكان بعيارة "في المخيم كنت أستيقظ كل يوم على مواويل الحنين إلى الوطن، وأنام على العتابا، وحينما كنت أتمشى بين الخيم كانت الحكايات تتعالى وتصدح بأصوات عتيقة، وتنشر بالهواء كما تنشر زهور الوردنية" في الفقرة التالية تعبر الكاتبة عن نسيج متكامل من المشاعر والحزن مستعينة بأنواع الذاكرة المختلفة فالمكان -المخيم- يعد مساحة الذاكرة التي تتسع لتحتضن أنواع الذاكرة الأخرى، أما الحكايات استدعت بشكل مجازي لتجمع بين عنصري الحواس السماع والرائحة فأصواتها تتعالى لتسمع من قبل الجميع، ورائحتها – بالمعنى المجازي- تنتشر كرائحة الزهور الجمع بين حاستي السمع والشم تثبت الحدث في الذكرة وتعزز حفظها بشكل أعمق، أما ذاكرة الأشياء صورت بالمواويل والعتابا وهي عناصر ثقافية وفنية تستأصل في ثقافة المجتمع لتوجد روحاً للحنين والاشتياق للوطن، بينما ذاكرة الزمن كانت كدورة زمنية حيث تستيقظ الذكريات مع بداية النهار وتنام في نهاية اليوم، كأن الكاتبة تخلق حركة مع كل يوم جديد لتجديد ذاكرة الحنين لتحي الشعور بأهمية الحياة لمقاومة مغتصبي الأرض. خامسا: الخطاب اللامركزي وأفق السرد المتسع وظفت الكاتبة اللامركزية كتقنية ذكية تنشّط تفاعل القارئ للنص من عدة زوايا مختلفة، الأمر الذي يمنحه فرصة لتأويل متعدد الطبقات، بعيدًا عن سلطة القراءة ذات الخط الأحادي، فالقصة ليس عرضاً للقراءة فقط لكنه نشاط يكون للقارئ فيه دوراً لترتيب الأحداث وفهم الشخصيات ليتيح لذهن القارئ اكتشاف المعنى. وأشارت لذلك فاطمة تختي في دراسة لها بعنوان "اللامركزية في قصص الأطفال – قصة أرشيفيا لأمل ناصر نموذجاً" إلى أنّ أمل ناصر تستخدم تقنيات اللّامركزيّة ذات الصلة وتقدم المسار السردي للقصة بطريقة مغامرة ومتداخلة ومثيرة، كما أن الكاتبة تخلق حالة من الغموض المعقد من خلال استخدام أساليب مختلفة مثل التحوّل وتدخلات الراوي وتكرار الأسئلة؛ هذا الغموض لم يؤدِ إلى حيرة المتلقي بل يثير فضوله ويشجعه على التفاعل مع النص يُحوّله من مجرد قارئ إلى مشارك نشط (تختي، 2025).بينما تسعى القراءة التحليلية في هذا المقال إلى الكشف عن مواطن اللامركزية ودورها في تعزيز ذاكرة المقاومة، كما تتجلى هذه المواقع في عدد من الخطابات المختلفة. • تعدد الشخصيات، والذي يعكس تعدد الأصوات المختلفة، "الطفلة" تمثل الجسر لنقل الهوية الوطنية والحفاظ عليها، أما "العجوز" فهي الذاكرة الحية والحافظة للإرث الحضاري والثقافي، والخيال مُثل "بسندل" إلى جانب "الصندوق" وما يحتويه من أشياء وذكريات عبر عن الثروة الثقافية والهوية الوطنية؛ تعدد الشخصيات واختلاف أدوارهم في القصة؛ توجد مساحة نصية تتيح للقارئ الإنصات للأحداث من أكثر من زاوية، وهي تأكد له أن ذاكرة الجمعية وأن كانت شاملةً للمجتمع إلا أنها جزء من ذاكرة الفرد وبذلك تعزز الكاتبة لدى القارئ منهجية المجتمع نحو حفظ الهوية ومقاومة العدو. • تنوع الخط الزمني والحدث، يتّسم البناء الزمني في قصة أرشيفيا بتعدد وتداخل الأحداث، حيث لا يسير تسلسل الأحداث وفق خط زمني واحد، بل يخضع لحركة الذاكرة الداخلية للشخصية الرئيسة – الفتاة – فتتقدم اللحظات وتتأخر تبعًا لتقلبات الوعي وتداعيات المواقف، في تشابه مع ذاكرة الإنسان التي لا تستحضر الوقائع وفق ترتيب زمني ثابت، بل تتناثر المشاهد وفق ما يستفزها من مؤثرات وجدانية أو عقلية، وهذا ما عكسه النص، هذا التراكب الزمني يمنح القارئ دورًا فاعلًا في إعادة ترتيب المشاهد، ويحفّزه على التفاعل العميق مع النص، مما يكسر الرتابة السردية ويُبقي الذهن في حالة من الانتباه والتأهّب المستمر لتلقي الحدث التالي. ومن الأمثلة البارزة على هذا الانتقال السردي المفاجئ: انشغال القارئ بحديث الجد وأرشيفيا حول وقائع يوم ولادتها، ليجد نفسه منقادًا إلى تساؤلات الفتاة حول اسمها المسلوب، ثم إلى وصف مفاجئ لكائن يُدعى "سندل"، وما يميزه من صفات، وما يفضله من طعام، قبل أن تعود الفتاة فجأة إلى اليوم المنكوب والدعسورات الشريرة. هذا التنقّل الحر بين الأزمنة والمواضيع لم يكن عشوائيًا، بل خدم البنية السردية على نحو فعّال، فعمّق التوتر لدى القارئ ليحفز انتباه، ويمنحه دورًا في تأويل الأحداث، دون أن يُفرض عليه مسار سردي جامد. • البنية المتداخلة للسرد ونشير هنا إلى تقنية القصة داخل قصة، تعد البنى المتداخلة للأحداث توليفة جاذبة للطفل، فهي تقفز بالقارئ من قصة إلى آخرى، ومشهد يختلف بمشاعره وتعابيره عن سابقه، بدءً بمشهد يوم الولادة ثم الحديث عن سندل، ليعود بنا المشهد التالي باليوم المنكوب، لتنتقل بالقارئ لمشاعر الحنين والشوق للأرض، ومن ثم لقاء العجوز وقصة الصندوق، لتنتهي بمغامرات سندل وإيجاد الصندوق لتحتفظ به الفتاة أرشيفيا. هذه التوليفة للأحداث القصص المتداخلة باختلاف الزمان والمكان وتباين الشخوص أوجد نوعًا من الإثارة لدى القارئ، وتبني جسرًا يمتد بين الجيل الماضي والحاضر، يشتركا بهدف وغاية تنبع من الذاكرة لتحفظ الهوية الوطنية من النسيان، ومقاومة العدو، وصون الذاكرة الجماعية للأجيال القادمة. في ختام المقال، تتجلى قصة “أرشيفيا” بوصفها نموذجًا سرديًا فريدًا يوظّف الذاكرة وأدب المقاومة في آنٍ معًا، حيث يتحوّل الأرشيف إلى كيان حيّ يجسّد ذاكرة الشعوب. فالذاكرة هنا ليست مجرد أداة لاستحضار الماضي، بل هي وسيلة أدبية تحمي الهوية الوطنية والثقافية، وتعمّق صلة الإنسان بجذوره، وتضيء له دروب المستقبل. وهي في الوقت نفسه تفتح أبواب التأمل في قوة الكلمة وقدرتها على مناصرة القضايا الإنسانية. إن توظيف الذاكرة في الكتابة الأدبية ليس مهمة يسيرة، إذ يتطلب تعدد الأصوات وتنوّع التقنيات وتكامل عناصر السرد واللغة والخيال والإخراج الفني، وهو ما منح هذا العمل قيمته وفرادته. لقد أحاطت كاتبة القصة بالذاكرة من مختلف زواياها وتجلياتها، حتى يشعر القارئ وكأنه جزء من النسيج الحكاية وأحداثه.  تختي، فاطمة. (2025). اللامركزية في قصص الأطفال (قصة أرشيفيا لأمل ناصر نموذجاً). مجلة دراسات في السردانية العربية. (17)، 5 – 39. جامعة الخوارزمي. https://alrabeta.org/Uploades/Magazines/45935.3591534259.pdf?fbclid=PARlRTSANPKUtleHRuA2FlbQIxMQABp-As_Hzo2oTy2OMTndMnoHslHiFxZGh-8nJ6E0fb38FydZ0ao8BVAaeit_0o_aem_1jCTNx4FE1DMAZQfcPkAnw
عنوان الكتاب
أمل ناصر
لينا نداف


واقعي
فلسطين
الدفاع عن الوطن
المقاومة - قصص الأطفال