مقطع مجموعة من الحروف قررت متضامنة أن تغيب عن الأبجدية، تتوارى بعيدا عن الحضور، ربما كانت تريد أن ترقب أهميتها، وأثر غيابها، وما تُحدثه من إرباك في التعبير والتصوير في لغتنا. فهل تخيلت في يوم أن يغيب الحرف؟ غياب الحرف أم غياب الفرد قراءة في نص "حين يغيب الحرف" بقلم بتول أحمد خميس عرفت القراءة في اللغة بفِعْلي الضم والجمع؛ بضم الأحرف نشأت الكلمة، وبجمع الكلمات أغدقت العبارات والجمل، التي بدورها أنشئت لغة تخاطب وفهم، وأفكار منطوقة أو مكتوبة، فللكلمة أثرها على الكاتب، والقارئ، والمتلقي لها، وإن كان لجمع الأحرف وضمها أثر في تشكيل الكلمة والمعنى والحدث، فهل في غياب الحرف ذات الأثر؟، سؤال أثاره الكاتب الدكتور علي عاشور الجعفر في نص بعنوان "حين يغيب الحرف" خطوط جاسم معراج وتصميم محمد شرف إصدار 2022. خاطب النص الصغار من تجاوز العاشرة والناشئة، لكن القارئ للنص يجد بعدًاً فلسفيًّا يحاكي ثقافة مختلف الأعمار، فالجعفر قدم تحفة ثقافية فنية، كانت للكلمة فيها حدث وأثر آني بفعل ملموس للصغار، وتأمل فكري تجريدي استشعر الكبار، كلا الأمرين (الملموس والتجريدي) أثار تأمل القارئ وتبصره لأثر حالة غياب الحرف واحتجابه لا بحضوره الفاعل المسبب للحدث. زاد جمال النص إبداع "جاسم معراج" في تشكيل خطوط النص باللونين الأبيض والأسود، دون الرسوم الملونة التي اعتدنا قدرتها على منح النص جمالاً وإيضاحاً للمعنى، واكتفاء الخطاط بللون الأبيض والأسود لدلالتهما العميقة والتي وجه خلالها خطاباً مغايراً وتحدياً بصرياً في تحفيز القارئ لتفسير النص من خلال مضمون الظاهر والباطن للخط، وإن اختلف اللون وتضادا إلا أنهما مكملان لبعضهما البعض؛ فالأول كناية للنور الذي لا يظهر إلا بعد غياب الظلمة المتمثل باللون الأسود، وهما في ذلك يؤديان ذات الغياب للحرف في النص. تجلت جمالية وأهداف استخدام الخط بالأبيض والأسود في العوامل التالية: 1- ربط الخط العربي بلونيه الأبيض والأسود فن عربي له جمالياته وتاريخه؛ فإحياؤها تعزيز للأصالة والهوية العربية، وفي ذلك الإحياء سحر لغويّ، وفنّ عربيّ قل تواجده في كتب الناشئة والصغار، ليدركوا فن الخطوط وقراءة المعنى من خلاله. 2- توجيه الذوق العام للقارئ لفن الخط وقراءة ما وراءه من خلال إثارة تفكيره لتفسير أبعاد الخط ورموزه المختلفة بدلاً من الاكتفاء بالنظرة الفنية للرسوم الملونة فقط. 3- بالرغم من جمود الخط وثبات اللون إلا أنها لعبت دور المحرك كما لعب الغياب دور الحضور، ففي ثبات الحرف تعدد المعنى وتباين الخطاب الثقافي عند المتلقي. 4- استخدام اللون الأسود في فراغ بياض الصفحة يزيد من قدرة الخطاط لاستغلال عناصر الخط المتمثلة في الظلال، وحجم الخط والشكل والتباين ودرجة إعتام اللون الأسود، وفي الأمر تبيان للمعنى سيوضح المقال ذلك كلٌ في موضعه. "حين يغيب الحرف" نص شعري إبداعي يعرّفه الكاتب في مقدمة الكتاب بقوله: "رحلة اكتشاف للغياب وارتشاف للرضاب، وتقلب ما بين حضور وغياب" تلك الرحلة هي اكتشاف حقيقي ومجازي لأثر الغياب، الغياب الذي يعني الحضور بمعنى آخر، فعل وحدث آخر وحالة أخرى. بدأ النص بعبارة إخبارية تلاها سؤال "حين يغيب الحرف.. ويغادر مجتمع الكلمة.. ماذا يجري؟ وكيف يصير الحال؟" كان السؤال نصًا ذا عمق فكري يضيء تبصر القارئ وتخيله، ويزيل ستار السطحية والاعتيادية في الفكر لينطلق به لأفق التفكير المبدع القادر على تصديق الحدث الناتج من أثر الغياب الحقيقي، وأثره الفلسفي التجريدي، في الأثر الأول خطاب للناشئة والصغار لتحفيزهم للبحث والاطلاع، وفي الثاني خطاب للكبار ليتخطى العبودية والظلم ويحيا حياة الكرامة والحرية. جاء النص ليكتشف أثر غياب تسعة أحرف مجتمعة في عبارة "أبحث عن روض" بالرغم من انفراد حالة الغياب إلا أنها كونت علاقة سببية؛ غياب يمهد لآخر، وحدث نتج عن سابقه، فكان الأثر عميقًا، وتغير الحال واضح جلي على مجتمع الكلمة بالمعنى الظاهري، ومجتمع الإنسان بالمعنى الباطني الفلسفي للنص، ومن خلال القراءة التحليلية التالية سنوجد علاقة الإنسان باللغة لغياب الحرف أو حضوره. بدأت الرحلة بألف الأسرة التي تعتبر أساس بناء المجتمع، اختلفت الأسرة (أب وأم وأخ وأخت) بالشخوص والذات، بالميول والأفكار، جمعتها الألف بتآلف وإنسانية، ذلك التجانس للأسرة مثله "جاسم معراج" برسم عدد من الألفات المستقيمة دون همزة، بعلو وانخفاض مختلف، ليوضح ثبات الفرد باستقامة الألف والتباين بينهم باختلاف المسافة، كما كان لغياب الهمزة أثرها الواضح؛ فالهمزة رأس يعلو الألف، ولغيابها نقص في الألف، لذلك لم تظهر لنا ألفاً متكاملة، فالنقص موجود بغياب الهمزة، وهي ترمز لأثر غياب قائد الأسرة، أو غياب الوطن. ولاستحالة انحناء الألف وظًف الخطاط الهمزة لتشكل دائرة مزهرة متماسكة تكشف تآلف ومحبة الأسرة والمجتمع، فهل في غياب ألف الأسرة غياب للوطن؟ في الباء بناء واستمرار للحياة، ولذلك كُتب النص أسفل الصفحة برمزية لأمران؛ الأول لنقطة الباء التي يعرف بها أساس بناء الباء، كما الأسرة أساس بناء المجتمع، ولاستمرار الحياة على الإنسان بناء العلاقات مع الآخرين وما حوله من البيئة والطبيعة. فجاءت الكلمات التالية للدلالة على المعنى السابق (بنت العم، البرج، البلبل، البرق، البحر، البدر). أما الأمر الآخر من كتابة النص أسفل الصفحة يكمن بترك فراغ كامل في أعلى الصفحة لرمزية تعبيرية تعكس معاني الكلمات كالبرق والبلبل اللذان يريان في السماء الذي مثل معناه في فراغ الصفحة. ذلك البناء يثمر كما يثمر حبات البذر في حقلٍ يحتضنها، حبات البذر هي ذات قطرات الحبر الذي يخط الكلمات على الصفحات. الأول في الطبيعة لاستمرار الحياة، والثاني في النفس لثبات الهوية؛ لذلك جاءت قطرات الحبر أو البذور متناثرة أسفل النص لقربه من الأرض المحتضنة حقلا كان أم رأياً. لا يهدم البناء السابق إلا حاء الحرب، الذي سبب رحيل الكثير، لكن غياب الراء في الحرب حل الحب في قلب ثاء الثائر لينهض فينال النصر والكرامة، بتسلح العزم والقوة. وقد أشار الخطاط للمعنى السابق بخط ثاء رأسية مندفعة للأعلى بعزيمة الثائر للدفاع عن هويته وأرضه، وثاءً أخرى أفقية وبنقاط متحدة داكنة قريبة من أسفل الصفحة للدلالة على تمسكه بأرضه ووطنيته. لكن ذات الثاء لا تخلو من النفوس الضعيفة التي تتلبس أقنعة الثعلب والثعبان لتخون وطناً، وفي ذلك رمز الخطاط النص بعدة خطوط للثاء منحنية زاحفة تدل على حركة المراوغة والاختباء. تشكل لدى الكاتب كلمة "أبحث" فمازال هو في حركة وتنقل للوصول إلى روض، روض الحياة والحرية، ليلتقي حرف العين، فعين الماء تروي الحياة، وعين العلم يروي العقل، واستكمال الطريق لا بد له من الارتواء من نبع العينين، لكن بغياب حرف العين من أين ينهل الثائر؟ خُطّت العين كسلسلة مترابطة، جمعت مختلف معاني الكلمات وحركتها، فهي عقد وعصفور وعقاب. رسم الخطاط حرف النون بعدة أوعية متداخلة للدلالة على الاستمرارية والقدرة على الحمل والعطاء والتدفق (كنهر، نرجس، نسرين، ونحل)، كعطاء الوطن الحر. بغياب نقطة النون أصبح الوعاء دوامة لا مستقر لها، ووضح أثر غياب النقطة بارتكازها بمنتصف الصفحة وازدياد شدة سوادها، بينما الوعاء مازال مشتتاً بظلال السواد، باحثاً عن ذاته، كالثائر الباحث عن روض. بالراء انطلاقة للثائر جمعت كلمات (الريح، رمال، ريش، الزورق والبحر)، فعل الحركة والانطلاق بلا قيود، وفي ذلك دلالةٌ للإنسان الحر. بينت ريشة الخطاط ذلك المعنى برسم الراء منطلقة وكأنها محلقة في فضاء الصفحة. عمد الكاتب باستبدال فكرة غياب الحرف في الواو بحضوره ليستمر في إثارة خيال القارئ، ولإشراقة نور الأمل فيكون للوجد وجود، ويكشف السر عن سرور، ويصبح شعاع الضوء وضوء يطهر الأرض من كل الشرور. بالضاد وصل الثائر الحر للروض، إتمام النص بحرف الضاد رسالة ذكية موجهة للقارئ بأهمية الكلمة واللغة وأثرها كهوية للفرد والمجتمع، فالعربية سُميت بلغة الضاد ولها بذلك الصدارة والسلطة، كما للكلمة سلطة على النفس والفكر. رُسِمت الضاد محتضنة للأخرى للدلالة على احتواء اللغة لبقية الأحرف والناطقين بها، وبختام النص خُطت الضاد متداخلةً مشكلة دائرة راقصة فرحة بالنصر تشدو أنشودة حب الوطن. قادنا الكاتب برحلة بصحبة نص كُتب بتناسق بين جمالية السياق وإبداع الخطاط، برع الكاتب في إظهار المعنى لغياب الحرف بصورته الواقعية، وغياب الفرد بصورته الرمزية، وتميز الخطاط بتقديم خطاب بفن الخطوط والنقش ليقدم الإثنان رسالة تعليمية: الاعتزاز باللغة وحفظها من التشويه وبها ينال الفرد كرامته وحريته، وبغيابها غياب للقيم الإنسانية. https://oyoonoman.com/post/4621
عنوان الكتاب
علي عاشور الجعفر
خطوط جاسم معراج


رمزي
اللغة العربية
الحروف
الخيال