مقطع |
عرّف الجد حفيده محمد على أنواع السبحات التي يحتفظ بها، وحكى له سر محبته لسبحة بسيطة فقد تمكن بذكر الله وتسبيحه من علاج الغضب في شبابه، وأهداه سبحة الفيروز، ولما فلتت سبحة الجد وكانت من الكهرب بادر الحفيد محمد بإصلاحها، وحينما كبر الجد صارت أصابع يده سبحته المفضلة.
عندما تصبح حبات السبحة حكاية
قراءة في قصة "سبحة جدي"
بقلم أ. بتول أحمد خميس
كان لسرد الحكايات والقصص من شفاه الأجداد سحرٌ يجمع أفرادَ الأسرة ليضفي للنفس متعة وسروراً، وللعقل حكمة وموعظة، وللحياة عبرةً وخُلقًا تُقوّم السلوكَ وترشده بجو من الألفة والمحبة بين أفراد الأسرة. فما يسرده الأجدادُ من الحكايات يعدُّ جزءًا من النهج التربوي، فالجدَّان بممارسة فعل القاصّ يُعدان المُربيَين غيرَ المباشرَين في تشكيل قيم الأحفاد وسلوكهم.
أحدثَ التغيرُ الاجتماعي لمفهوم الأسر وانتقالها من الأسر الممتدة إلى النواة التي تجمع الأبوَين والأبناء فقط لتقليص دور الأجداد في توجيه الأحفاد وإرشادهم من خلال سرد الحكايات والقصص، ليظهر الأثرُ جلياً على سلوك الأبناء وثقافتهم، فتتوارى بعضُ عادات المجتمع وتقاليده ليُحدثَ فراغاً فكرياً ثقافياً أتاح للشاشات الذكية والألعاب الإلكترونية إحكامَ سيطرتها وهيمنتها بسحرها الممتع؛ لتستحوذ على اهتمام الأطفال وتفكيرهم، وبات سردُ الأجداد للحكايات مدونات في صفحات الأدب الفلكلوري تُخبر عن ماضٍ جميل تسترجعها بعضُ المواقف والأحداث كالاحتفالات والأعياد الوطنية.
انتقلت القصة في أدب الطفل من مرحلة السرد الشفاهي إلى مرحلة النص الكتابي ليُعدَّ المؤلفُ مقرراً رئيساً في تحديد أهداف وموضوع القصة من جهة، ومؤثرًا في فكر القارئ واتجاهاته من جهة أخرى. ونجد اهتماماً من بعض الكتَّاب ممن كبر وشابَ على حكايات الأجداد بتضمين القصصِ شخصيتَي الجدَّيْن كأدوار رئيسة أو ثانوية، فما زالت ذاكرتُهم تختزن حنينًا وشوقًا لوقت الاستماع للحكاية من رموز النقاء والعطاء.
تعد الكاتبة الكويتية "باسمة الوزان" من أبرز من ضمَّنت شخصيتي الجد والجدة في مؤلفاتها القصصية، وعوّضت فقدانَ دورهما في الواقع الحالي بتعزيز وجودهما الإيجابي في قصص الأطفال، حيث يلازم حضورُهما في سياق القصة وجودَ الأحفاد والأسرة.
اعتمدت الكاتبة في صياغة عناوين القصص على أسلوب نحوي "الإضافة" حيث أضيف أمرٌ ما لمصطلح "الجد والجدة" كقصة "هواية جدتي" و"مكيال جدتي" و"سبحة جدي"؛ لتحدد العلاقة بين الشيء وصاحبه المتمثلين بالجد والجدة في القصص، وذلك لتعزيز شخصيتهما، ولتوضيح الرابطة العاطفية للأشياء التي تحمل ذكرى ومعاني خاصة لصاحبها، وتضفي في ذات الوقت قيمة معنوية تتجاوز قيمتَها المادية ليستشعر القارئ بأهميتها؛ فتعمق الرابطة العاطفية بالجدَّين كما تسهم في تعلم بعض العادات التراثية القديمة ومسمياتها. نجد ذلك الوصفَ جلياً في قصة "سبحة جدي" فهي تعد نموذجاً قصصياً متميزاً لمؤلفتها "باسمة الوزان" رسوم "انطلاق محمد علي" إصدار العالم العربي للنشر والتوزيع (دار أشجار حالياً) عام 2017.
نصٌّ مفعم بالعاطفة الدافئة، وحوار منسَّق يُعرِّف من خلاله الجدُّ الحفيدَ بأنواع السُّبح وألوانها واستخدامها في الاستذكار، وبالرغم من وضوح الهدف العام للقصة إلا أن النص مليء بالغايات النبيلة التي ضاعفت قيمةَ العمل ليشملَ سياقاً عاطفياً، ودينيًا، وثقافياً، وتراثياً.
"كلما زارني طيفُ جدي رأيت بيده سبحة صفراء" ترتحل بنا العبارة الأولى للنص لذاكرة الحفيد للأحداث، فالجملة السابقة تُنبئ القارئَ بماضي الأحداث، وبعدم وجودٍ حقيقي للجد، نستنتج ذلك من كلمة "طيف جدي" وكذلك من إخفاء وجه الجد على غلاف القصة مع الاكتفاء بإبراز وجه الحفيد حاملاً بيده ما يرمز مباشرةً للجد؛ وهي السبحة، حاضناً الجدَّ، لتبعث الرسامة رسائلَ مبطنة تؤكد غيابَ الجد الحقيقي وحضور أثره المعنوي على الحفيد، كما لجأت الرسامة لتضمين صفحات القصة بخلفية مخططة مشابهة للكراس لتؤكد زمناً مضى.
وبالرغم من غياب الجد إلا أن حضورَه هيمنَ على سياق القصة، وفي ذلك رسائلُ عدة لذهن القارئ منها:
• التعاطف مع أحداث القصة وشخصياتها، فالإيهام بالوجود الحقيقي للجد زاد من حاضرية الحدث وفعاليته، وعزز التعاطفَ والأثرَ الإيجابيَّ على القراء؛ باعتباره حدثاً آنيّاً أكثر من لو كان الغياب واضحاً ومباشراً.
• هيمنة الحضور تؤكد على أهمية الجد في حياة الأبناء وتعزيز العلاقة والترابط بين الأجداد والأحفاد بصورة أعمق، وإن اختلفت ثقافة الأسر وطبيعة الحياة.
يتدفق العمل القصصي بعطاء معرفي ثقافي أخلاقي، فالنص موجه لهدف عام تندرج منه غاياتٌ نبيلة عدة، وإن اختلف المجال، إلا أن كلَّ خطاب منها يكمل الآخر لتؤسس قواعد فكرية مختلفة للقراء الصغار.
وسنتناول في القراءة النقدية القواعدَ تلك، كل على حدة، لتبيان جماليتها وأثرها الإيجابي على القارئ.
• الخطاب الثقافي التعليمي: الانطلاقة الأولى المعرفية لهدف القصة، وهو التعريف بالسُّبح وأنواعها وألوانها ومميزاتها، وقد قدمت الكاتبة تعريفاً وافياً لأنواع السبح وألوانها، ويعد التعريف بالسبح من الموضوعات النادرِ تناولُها في قصص الأطفال، بالرغم من ربطها المباشر بالمجال الديني العبادي والثقافي الفلكلوري، وهذا يُحسب للكاتب في انتقاء شخصية الجد وتوظيفها للتعريف بالسبح، وإن كثرت شخصية الجد في القصص الأخرى.
• الخطاب التراثي: لم تغفل الكاتبةُ عن الأهمية التراثية للسبح التي تعد جزءًا من تراث الكويت والخليج، ومن الأدوات التي اهتموا بها، وحرص الرجال على اقتنائها، فحرصت الكاتبة على ذكر أهميتها التاريخية كفنٍّ ومهنة من خلال صناعة الكراكيش، ومهارتهم اليدوية المنتظمة في استخدام السبح.
• الخطاب الديني: ارتسمت القصة بطابع إيماني باعتبار السبحة أحدَ أساليب العبادة، مع ذكر عبارات التسبيحات والتهليلات، وذلك تعليم مباشر للطفل القارئ بأهمية أداء التسبيحات بصورة دائمة، وتعزيز غير مباشر بالاقتداء بشخصيات القصة على أهمية اقتناء السبح واغتنامها بذكر الله تعالى، كما أبدعت الكاتبة في استغلال الخطاب الديني لتعزز الأثرَ الملموسَ للتسبيح في التغلب على الصفات السلبية والمتمثل بالغضب في القصة، وبذلك تُعمق رغبةَ اقتناء السبح لدى القارئ الصغير لتكون عادةً منذ الصغر.
• الخطاب العاطفي: امتاز النص بعاطفة أبوية صادقة أسرت مشاعر القارئ ليستشعر بوجدانه عذوبةَ الأبوة واحتواءَها الدافئ، وهذا أمر يُحسب للكاتبة بقدرتها على محاكاة وجدان القارئ من خلال الخطاب العاطفي لتهيمن على مشاعره.
• خطاب نبرات الكتابة والصور: استمرت حذاقة الكاتبة بتوظيف عناصر متعددة مستعينة بالصورة ونبرات النص؛ لبلوغ الغاية الأسمى وهي تعزيز الرابطة الوثيقة بين الجد والأحفاد، وترسيخ قيم الحب والاحترام، وتوثيق الترابط التراحمي بينهما. فوظفت عناصر متعددة منها ما يلي:
1. الحركة: وصفت الكاتبة حركة السبحة باليد من خلال فعل التسبيح أو فرك السبحة باليد أو بإلقائها بين اليدين؛ وفي وصف الحركة الصامتة للسبحة خطاب غير مباشر للقارئ بكيفية استخدام السبحة وحملها، بل بإدراك الواقع للقارئ بمشاهدته للرجال بأداء ذات الحركة.
2. حاسة السمع: لم تغفل الكاتبة عن صوت تصادم الخرزات ببعضها لتوضح صوتها باللفظ "تك.. تك" مما يحبب القارئ باستكمال القصة لمعرفة أسرار السبح وبالتالي اقتنائها.
3. حاسة الشم: أوجدت الكاتبة والرسامة علاقة غير مرئية لحاسة الشم من خلال رائحة البخور ورائحة سبحة الكهرب، ليتكامل النصُّ بالصورة فتحض القارئ ليستشعر الرائحة بوجدانه، وفي ذلك تميز للنص ورسومه.
4. الرسوم: تناصفت الكاتبة والرسامة نجاحَ القصة، فحاكى الرسمُ النصَّ بعناية، وخاطب الذوقَ الجماليَّ للأطفال برسوم تفيض منها العاطفة والمشاعرُ. فالحب يشع من ملامح الوجه، واليد تمثل الدفءَ والحنانَ بانبساطها في معظم الرسوم باحتضان الجد للحفيد، ولتوثيق مفهوم الترابط الأسري شكلت الرسامة رابطةً كالسبحة للتواصل بين الرسوم من خلال خيط متصل بين صفحات القصة المحاطة بدائرة كخرزات السبح؛ لتعزز الترابط والتلاحم لمفهوم الأسرة وخاصة علاقة الجد بالأحفاد، كما توحي للقارئ بأهمية إعادة استخدام السبح. وبالرغم من جماليات الرسم وتداخل عناصر عدة تمثل الخير والعطاء كالماء والشجر والعصافير، إلا أن كثرة النقوش وتفاصيلها تسبب تشويشاً لإدراك الطفل وقراءة الرسم.
"سبحة جدي" ليست فقط شهادة على براعة الكاتبة في تبيان قدرتها على تقديم نماذج قصصية لجيل تغرَّبَ عن ماضيه، وفقدَ العديدَ من ثقافته، بل هي رحلة عاطفية تعكس القيمَ والتقاليدَ التي تربط بين الأجيال، مما جعل القارئ يعيش التجربة وكأنه جزءٌ منها، فأضفى قيمةً للنص ليجعل منه نموذجاً يستحق القراءة والتأمل.
https://alrabeta.org/Uploades/Magazines/45600.3512537963.pdf
|