مقطع كان الطبيب "بلود" يقف أمام نافذة منزله يرى الحشود الهائلة المتجهة إلى قصر "فيلد" وكانت مسلحة بالأسلحة الكثيرة، وكل أوليائك المسلحين: النجار والحائك والصانع والبناء والبدال من أجل حركة الثورة، رأى الناس وقال في نفسه: إنهم ذاهبون إلى الهلاك. وكان الطبيب بلور قد قرأ منشور إذاعة "مونماوث" الابن غير الشرعي للملك "شارل الثاني" مطالبا فيه بعرش أبيه الذي استولى عليه "جاك الثاني" شقيق الملك المتوفى. وكان بلور متعجرفا فاقد الحماس، لا يندفع في سبيل الدفاع عن الحق والدين والحرية. فعندما فرغ من سقي الزهور وقعت عينه على أختي "بث" أمام منزله، فكانت نظراتهما تشعرانه بالاحتقار؛ لأنه لم يشارك في الثورة، وهو الرجل الشجاع القوي ولكنه لم يبالِ بهما. كان "بلوم" ابن طبيب لأم إنجليزية، قد أتم دراسة الطب، وكان مغامرا وانتظم في خدمة الهولنديين، وكان ذلك في حرب طاحنة مع الفرنسيين، فاشترك في المعارك البحرية، وبعد الصلح سُجن في سجون أشبانيا، وعند بلوغه 32 عاما خمد فيه الحماس إلى المغامرة، وقرر العيش في إنجلترا بلد أمه، كان صاحب ثروة متواضعة عام 1685م عندما كان في إنجلترا، وعاش في لندن يزاول مهنة الطب، وفي تلك الأثناء قامت هناك ثورة كان فيها مونماوث على رأسها، وشن هجوما على جيش الملك، ولم يهتم بلود بالثورة، ونام نوما هادئا ولم يوقظه صوت المدافع، وإنما أيقظه صوت طرق الباب بشدة، فتح بلود الباب فرأى شابا متعبا ذا ثياب ممزقة، عرف فيه نسب الأختين بث، فقال بلود: ماذا تريد؟ قال له الشاب: إن اللورد "جلدوي" جريح جرحا بالغا، وهو في مزرعة قريبة من هنا، وقد أرسلني لأستدعيك. تضايق بلود من الخبر؛ لأن اللورد جلدوي كان له فضل على بلود، فعرف بلود أن الدوق مونماوث قد خسر المعركة، قفز الشاب على الجواد ومعه بلود، وطار بهما إلى عالم جديد من المغامرات. داوى بلود الجريح، وضمّد جراحه، وبينما هو منكب على الجريح سمع صوت خيل، ولكنه لم يهتم؛ فقد كان مهتما بالجريح، فأتى الجنود إلى الجريح لأخذه، فلم يوافق بلود، وصارت مشادة كلامية بينهم، فسأله الضابط: من أنت؟ قال له: أنا بطرس بلود الطبيب. قال له الضابط: تختبئ تحت مسمى الطب؟ إن المشنقة في انتظارك. فلم يأخذوا اللورد جلودي، وتم اعتقال بلود. وبعد شهرين من محاكمة بلود حول الخيانة العظمى، قاموا بمحاكمته ومعاقبته أشد العقاب مع أنه كان بريئا، ثم قادوه إلى المحكمة، ومعه الكثير من المعتقلين الأشقياء، وقاموا بتعذيبهم، وكان بلود يعاون الجرحى، ولكن الحرس كانوا يمنعونه من مزاولة الطب. علمت الثورة أن الدوق مونماوث قد شنق، وأن أنصاره قد يئسوا، وكان بلود يسمع هذه الأحاديث ولا يحفل، ولكن ثار الأمر بين هؤلاء السادة ومنهم اللورد جلودي، الذي ذهب يعالجه ويداويه، واشتروا الصفح عنهم بمبالغ مالية، وفي المحكمة كان بلود جالسا فإذا بصوت هامس يقول: ارفع يدك يا بلود. فرفع يده وقال: إن بلود متهم بالخيانة العظمى. فسألوا بلود: هل أنت مذنب؟ قال: لا، لست مذنبا ولا بريئا. وفي هذه الأثناء، كان بلود ينظر إلى رئيس المحكمة نظرة الطبيب الفاحص، فبدا الرجل مصابا بمرض عضال، وبدأ المحامي بالمرافعة، مستشهدا برئيس الجند، الذي ألقى القبض على هؤلاء الثلاثة: هل هناك اعتراض؟ قالوا: لا، بل إن بلود نقي وغير مذنب. ولكنهم اتهموا بالخيانة العظمى وسجنوا، وبينما هم في السجن، علموا أن الدوق مونماوث وصاحب المزرعة أيضا ليسا مذنبين، وحكم عليهما بالشنق ولكن من حسن حظهما أن رئيس الوزراء عفا عنهما، وطلب منهما نقل ألف ثائر إلى جزيرة الاتيتيل عبيدا مسخرين. وبينما هم راحلون مات منهم 11 من ركاب السفينة؛ بسبب سوء التغذية، وكان من بينهم صاحب المزرعة. رست السفينة في ميناء كاركيل، ونزل منها من ال أشقياء42 فوجدوا أنفسهم في ميناء صغير وجميل، وجاء الحاكم يتوكأ على عصاه؛ ليرى ذلك الفوج من المحكوم عليهم، فاقترب منهم، ونظرت الأميرة إلى بلود، وكان هو أيضا ينظر إليها، وقد اشترى الحاكم الشاب "بت" بخمسة عشر جنيها، واشترى رئيس الحامية الطبيب بلود بعشرة جنيهات، وهكذا حكم على بلود أن يكون عبدا لذلك الجلف الغليظ. وفي يوم جميل ذهبت الأميرة ومعها اثنان من العبيد إلى قمة التلال، وقام شخص بإلقاء التحية عليها فسألته: من أنت؟ فقال: أنا الذي اشتراني عمك بعشرة جنيهات. فتذكرت، وتذكرت أنه هو الذي شفى الحاكم وزوجته، وقال لها: أشكرك، فلو أن أحدا غيرك اشتراني لكنت منعت من مزاولة الطب، ثم قال لها قصته المؤلمة، وكانوا يتقابلون بين فترة وأخرى. وفي يوم أتت سفينة إنجليزية إلى الميناء وقد قام القراصنة بسرقة محتوياتها، أما ركابها فقد كانوا جرحى، وأتى بلود لمعالجتهم، وسمع الحاكم بذلك؛ فغضب وأمر بجلد بلود. أتت الأميرة إلى أحد الجرحى وأعطته ثمارا، فقال لها بلود: إنه من الأبسان. فعرفت أنه يستهزئ بها، فقالت: أعلم وإنه من بني البشر. فدهش بلود. كانت جزيرة سلحفاة إحدى جزر فرنسا، وكان ميناء كيانه ملجأ حصينا للقراصنة، وكانت فرنسا تساعدهم سرا في غزو السفن الألبانية، ولما وصل بلود كان همّه أن يجد سفينة قاصدة فرنسا أو هولندا، وألح الثوار على بلود أن يبقى معهم، ويكون زعيمهم ويطيعوه، فَقَبِل بلود ذلك العرض، وهكذا انقلب الطبيب بلود إلى قرصان من قراصنة البحر، وفي أواخر ديسمبر أخذ بلود يطوف بسفينة، ولما عاد في مايو من السنة التالية محملا بالغنائم، وقد أصبح بلود حديث الناس في أوربا، فاحتج سفير أشبانيا في لندن على بلود، وأنه من العبيد الهاربين وأيّده الملك جاك الثاني، وكانت هذه الأخبار تصل إلى بلود وهو لا يهتم بها. وطلب من بلود "ليمنيوار" وهو أحد القراصنة المعروفين بالقوة وقال له: ما رأيك بضم سفينتك إلى سفني وقوتك إلى قوتي؟ فردّ عليه بلود بعد تفكير. كانت معركة ماراكوبيو عملا باهرا من أعمال الربان بلود، وترتب على تلك الموقعة ممارسات دبلوماسية بين لندن ومدريد أما "دون مينجل" فقد عنّفه الأسطول تعنيفا شديدا؛ فأخذ يجدّ بالبحث عن الربان بلود؛ ليرضى عنه المجلس الأعلى. كانت سفينة بلود أو آرابله مقربة من الجامياييكي، فاستدعى بلود كلا من اللورد والآنسة "آربله" وأخبرهما بأن يقوما بالتسليم قبل أن يقصفهما أسطول الجامياييكي ويغرقهما في أعماق البحر، ولم يكمل كلامه حتى أخذت تلك السفن تقذف القذائف، وأمر بلود برفع راية التسليم فأقبل رجال ومنعوه وآثروا أن يموتوا، ولكنه أدرك أنه الوحيد الذي سيسلم نفسه وأن "اللكولونلا بشيوب" هو أعرف الناس به، وسيسمح للسفينة بالاستمرار بمن فيها إذا قبض عليه واستسلم بلود، وقد عزم "الكونولوم" على أن ينهي الأمر بهذه الخاتمة الحميدة؛ ليجرد بلود من العفو عنه، واضطر بلود إلى الانصياع لمشيئة الأميرال الفرنسي، الذي آثر أن يستولي على مدينة قرطاجة، وأن يجعلها هدفه الأول. خرج بلود وهو لا يدري أمجنون هذا الأميرال أم رجل يريد التخلص منه؟ وكان بلود يعرف مدينة قرطاجة، ويعرف كل ما يحيط بها من مخابئ ومتعرجات، ولكنه غيّر الخطة، وكانت خطة بلود تقود إلى أن ينزل برجاله بالبر، بعيدا عن الميناء، ودّع الكونولوم صديقه اللورد، ومشى صاغرا إلى قصر الحاكم، وكان بلود في تلك الساعة جالسا في مكتبة آربيله، مستغرقا معها في حديث ممتع، استعرضت فيه حياتها في سنوات ثلاثة، مرت عليها مملوءة بالحوادث الجسام، وكاد أن يصعق من الدهشة، عندما أقبلت عليه ابنة أخي آربيله باسمة الثغر والعينين.
عنوان الكتاب
عادل الغضبان


واقعي
أولادنا
لا يوجد بيانات