مقطع يروي في هذه القصة السندباد البحري حكايته، والتي تعد من أعجب الحكايات على مجموعة من أصحابه بينهم السندباد البري. ويذكر أنه عندما رجع من سفرته الثانية، وقد كسب الكثير من المال، وأقام في بغداد، وهو في قمة الانبساط اشتاقت نفسه إلى السفر لرؤية بلاد جديدة وإلى التجارة أيضا؛ فاشترى بضائع كثيرة، وحزمها، وسافر بها إلى البصرة، ونزل في مركب عظيم في البحر فيه تجار وركاب كثيرون، وانطلقوا على بركة الله، ولم يزالوا يتنقلون بين البحار والجزر والمدن إلى أن كانوا في يوم من الأيام في عرض البحر، وإذا بالريس تبدو عليه علامات القلق والاضطراب فيصرخ بصوت عال قائلا: لقد غلبت علينا الريح وعصفت بنا وساقتنا لسوء حظنا إلى جبل القرود الذي لم يأته أحد ويسلم منه قط. وإذا بالقرود من حولهم كالجراد المنتشر تنهب المتعة والرزق دون حراك منهم خوفا إن اعتدوا على أحد منها أن تفتك تلك القرود القبيحة بهم، فنجح المركب ورسا على جبلهم فاستولوا عليه وعلى كل ما كان فيه، وبينما هم في الجزيرة يأكلون من ثمارها ويشربون من أنهارها إذ رأوا قصرا شامخا عالي الأسوار؛ فدخلوه ووجدوا له فناءً واسعا، حيث غلبهم النعاس فناموا فيه من الضحى إلى غروب الشمس، وإذا بالأرض ترتج تحت أقدامهم، ثم يخرج العملاق الضخم الذي كادوا أن يموتوا من الرعب حين رأوه من شدة قبحه وشراسته الظاهرة على وجهه، فأخذ يجسهم واحدا واحدا كما يجس الجزار الذبيحة؛ فوجد السندباد هزيلا ليس به لحم كثير؛ فتركه وأخذ غيره وهكذا، إلى أن وصل إلى الريس السمين الغليظ فألقاه على الأرض، وشكّ فيه سيخاً طويلاً دفعه من حلقه حتى خرج من أسفله ووضعه على النار الشديدة في الموقد، وأخذ يقلبه حتى نضج وأكله ورمى العظام ثم استلقى وقد استغرق في النوم وعلا شخيره، ثم استيقظ في الصباح، وخرج إلى حال سبيله وإذا هم يندبون حظهم ويتمنون الغرق في البحر خير من أن يشووا على النار. حاول السندباد ومن معه البحث عن مكان آخر يختبئون فيه، أو طريق يهربون منه فلم يجدوا، وعادوا إلى القصر ؛ فإذا بالعملاق الأسود يقبل عليهم، ويجسّهم مرة أخرى باحثا عن لحم كبير إلى أن أعجبه واحد منهم ففعل فيه مثلما فعل بالريس بالأمس؛ فأكله ونام، ثم خرج في الصباح مثل المرة السابقة، حينها فكروا بخطة ليحتالوا على العملاق ويقتلوه ويريحوا الناس من ظلمه وعدوانه، فقاموا بنقل الخشب لصنع فلك وجهزوه بالغذاء والماء حتى يهربوا سواء نجحوا في قتله أم أخفقوا، ثم عادوا إلى القصر حيث أتى العملاق في المساء كالكلب العقور يجسهم واحدا بعد واحد؛ فأخذ منهم وفعل به مثلما فعل بسابقيه ثم أكله ونام كعادته، فقام السندباد وبقية أصحابه يتسللون لأخذ السيخين الطويلين بعدما وضعوهما على النار حتى توهّجا فغرزاهما في عينيه حتى صاح صيحة عظيمة رجفت منها القلوب وهربوا مسرعين إلى فلكهم ونزلوا فيه ودفعوه في البحر، والعملاق يأتي ومعه أنثى أقبح منه خلقة ليرجموهم بالحجارة حتى قُتِل الأكثرية وبقي ثلاثة فقط السندباد ومعه اثنان. سار الناجون بالفلك إلى أن رسوا على جزيرة مشوا فيها إلى آخر النهار، وإذا بالثعبان العظيم الخلقة يحيط بهم فيبتلع أحدهم حتى أنهم سمعوا عظامه وهي تتكسر، ولم تتم فرحتهم بالنجاة من الغرق والعملاق الأسود حيث حزنوا على رفيقهم وخافوا على أنفسهم فطلعوا على شجرة عالية ليناموا فوقها في المساء بعدما أكلوا وشربوا في الجزيرة، حتى جاءهم الثعبان مرة أخرى إلى الشجرة وتسلقها إلى أن وصل إلى أحدهم فابتلعه وبقي السندباد وحيدا وهو كالميت من الفزع والخوف، ففكر في ربط خشبه عريضة أسفل قدميه ومثلها على جنبه الأيسر وكذلك الأيمن وعلى بطنه ورأسه حتى صارت الأخشاب تحيطه من كل جانب وقد شدها شداًّ وثيقا وألقى بنفسه على الأرض حتى أن الثعبان حين جاءه لم يستطع ابتلاعه من الأخشاب فيئس ومضى إلى حاله، حيث قام السندباد ففك نفسه من تلك الأخشاب ليمشي في الجزيرة إلى نهايتها حتى لمح من ناحية البحر مركبا، وأخذ يلوح لهم بفرع شجرة كبير ويصيح، حتى رآه من في المركب وجاءوا لأخذه وسمعوا منه الأهوال الكثيرة التي قاسى منها فتعجبوا غاية العجب وألبسوه ثيابا وقدموا له الطعام والشراب فأكل حتى شبع وحمد الله على نعمه الوافرة وقويت همته بعدما أيقن بالهلاك حتى رسوا على شاطئ يخرج فيه التجار ببضائعهم ليبيعوا ويشتروا، وإذا بريس المركب ينظر إلى حال السندباد فأراد أن ينفعه بشيء، فأعطاه بضائع كثيرة ليبيع منها لرجل مسافر فقدوه ولا يعلمون عنه شيئا، وما يتبقى من البضائع سيرجعونه إلى أهل الرجل المفقود في بغداد. وحين أمر بإخراجها وإذا بالكاتب يسأل الريس عن اسم التاجر الذي يكتبها باسمه فقال له: باسم السندباد البحري الذي كان معنا وغرق، وحينها سمع السندباد بذلك فأخبر الريس أنه هو السندباد البحري ولم يغرق وإنما أخذته سنة من النوم على عين ماء فنام وحين قام لم يجد المركب، وأن البضائع هذه كلها ملكه فسأله الريس عن علاماتها فأخبره بها كما أخبره بأمر وقع بينه وبين الريس عندما نزل من المركب في البصرة، حتى تحقق أنه السندباد البحري فسلم عليه وهنّأه بالسلامة؛ فتصرف السندباد ببضائعه وربح ربحا كثيرا حتى عاد إلى أهله في بغداد، وسلم عليهم وعلى أصحابه وتصدق ووهب، ولم يزل على تلك الحال حتى نسي ما قاسى من سفرته تلك لكنه كسب أموالا لا تعد ولا تحصى.
عنوان الكتاب
سعيد جودة السحار


حكايات الأطفال
لا يوجد بيانات